لم تكن سجى، الشابة الفلسطينية ذات الأربعة والعشرين عامًا، تتخيّل أن يتحول مسار حياتها من حلم بناء مستقبل واعد إلى كابوس يومي من أجل البقاء، نتيجة جرائم الاحتلال الإسرائيلي. كانت قد تخرجت حديثًا من الجامعة وبدأت رحلة البحث عن عمل يُخفف من الأعباء الاقتصادية التي أثقلت كاهل والدها المتقاعد من الخدمة العسكرية. إلا أن العدوان الإسرائيلي الواسع الذي اندلع في أكتوبر 2023، أطاح بكل ما كانت تسعى إليه.
في اليوم الرابع للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، استهدفت طائرات الاحتلال منزل جيرانهم في جباليا شمال قطاع غزة، ما اضطر العائلة للنزوح قسراً إلى مدرسة حفصة. لم يكن النزوح هربًا إلى الأمان، بل انتقالًا إلى واقع لا يحترم أدنى مقومات الكرامة الإنسانية. في الصف الدراسي الذي تقاسمته العائلة مع أخرى، انعدمت الخصوصية، واضطرت سجى إلى ارتداء الحجاب طوال الوقت، حتى أثناء النوم، في ظل غياب أي مساحة شخصية. في رمضان، تذوقت سجى وعائلتها مرارة الجوع، وشربوا مياهًا مالحة وأخرى من مياه الأمطار، واضطروا لإعداد خبز من علف الحيوانات لم يتحمله الأطفال.
مرت شهور الحرب بثقل، حيث شن الاحتلال الاسرائيلي اجتياحًا بريًا لجباليا، وتكثّف القصف الاحتلال الإسرائيلي في محيط المدرسة. في صباح 21 أكتوبر 2024:
" كانت طائرة الكوادكابتر التابعة للاحتلال الاسرائيلي تحلق فوقنا، تطالبنا بإخلاء المكان، وقد حُدد موعد الإخلاء ما بين الساعة العاشرة صباحًا وحتى الخامسة مساءً. بدأنا نجمع أغراضنا استعدادًا لمغادرة المدرسة عبر الممر الآمن الذي أعلنه الاحتلال. وفجأة، وعند الساعة التاسعة صباحًا، دوى انفجار ضخم هزّ المنطقة بأكملها. كنت جالسة على السرير داخل الصف، ومن شدة الانفجار لم نسمع صوته، بل رأينا الغبار والدخان والركام يتطاير في كل اتجاه. وجدوني لاحقًا على بُعد عشرين مترًا من مكاني".
أُصيبت إصابة بليغة في صدرها، ووسط غياب سيارات الإسعاف والمنشآت الطبية، حاولت النجاة سيرًا على الأقدام، تمر بين الشهداء والجرحى، وتفقد وعيها على مراحل. وصلت إلى حاجز جباليا، حيث كان جنود الاحتلال في انتظارها. فصلوا والدها عنها، واقتادها أربعة جنود من الاحتلال الإسرائيلي وهي تنزف إلى مكان للاستجواب.
اتهمها جنود الاحتلال بالانتماء إلى فصيل سياسي، ورفضت الكشف عن مكان إصابتها، فطلبوا منها الدخول إلى دبابة عسكرية. هناك، حضر رجل بزي طبي مسلح، وغرس في يدها حقنة بطريقة مؤلمة، بينما جندي آخر يقوم بتصويرها، في مشهد لا يمت للعلاج بصلة، بل كان محاولة لتوثيق دعائي لممارسات تنتهك القيم الطبية والإنسانية. وبعدها قالوا لوالدها: "خذ ابنتك، نحن غير مسؤولين عنها".
سار بها والدها ثلاث ساعات حتى مستشفى الإندونيسي، ويدها منتفخة من أثر الحقنة، وضغط دمها متدهور. احتاجت لنقل دم عاجل، ثم خضعت لعملية جراحية لاستئصال جزء من الكبد ووقف النزيف. نقلت إلى مستشفى الشفاء، حيث توالت العمليات: استئصال جزء من الرئة، تركيب بلاتين للقفص الصدري، إصلاح ثقب في الحجاب الحاجز، فيما لا تزال شظية مستقرة قرب العمود الفقري تهدد حياتها في كل لحظة.
لم تعد سجى قادرة على النوم على الأرض أو المشي لمسافات طويلة، ولا حتى الصلاة واقفة. يحتاج استحمامها إلى مساعدة والدتها، وحين سألت الطبيب عن مستقبلها، أخبرها أن إصابتها مزمنة وقد تعقّد فرص الحمل مستقبلاً.
اليوم، تقيم سجى في خيمة بعد أن دُمر منزلها بالكامل جراء قصف الاحتلال، تبحث فقط عن سرير يخفف عنها ألم الحديد المغروس في جسدها، وعن بصيص أمل في حياة سرق الاحتلال ملامحها وكرامتها.