لم أكن أتخيل وأنا في الرابعة والعشرين من عمري، سيختصر في لحظة دخان واحدة... في زاوية مطبخ، بجوار ثلاجة.
عندما بدأت الحرب التي شنها الاحتلال الإسرائيلي، كانت عمارتنا ذات الطوابق الستة تعجّ بالحياة، أو ما تبقى منها. أكثر من مئة شخص، من أقارب وجيران ونازحين من كل مكان في غزة، احتموا معنا تحت سقفنا المتشقق. الخوف كان يملأ الزوايا، لكننا كنا نتماسك ببعضنا... بالصبر، بالدعاء، بالأمل الذي لم نفقده في البداية.
في 21 أكتوبر 2023، تغير كل شيء. كنت أحتضن "إيلين"، طفلة أخي، ذات العام الواحد، حين دوّى قصفٌ إسرائيلي، نصف المنزل انهار، والنافذة التي تطل على بيت الجيران اختفت خلف غبار الحرب. حملت الطفلة وهربت... لم أمت تلك الليلة، رغم أن الموت كان يتنفس في أنفي. بقينا في البيت، رممنا ما يمكن ترميمه، وتشبثنا بأرضنا، إذ لا ملجأ لنا سوى أن نبقى حيث كنا.
لكن صباح الخميس، 21 ديسمبر، لم يكن كباقي الصباحات. استيقظت لصلاة الفجر، وإيلين استيقظت معي. استهدفنا قصف آخر من طائرات الاحتلال الإسرائيلي، أمسكت بها بكل قوتي. كانت تعتبرني أمًا ثانية، أُطعمها، أُلبسها، وأحتضنها كل ليلة. وبينما كنت أتوضأ، انفجر كل شيء. أمسكت بها بكل قوتي، وتوجهنا نحو المطبخ، اختبأنا بجوار الثلاجة. كنا نرتجف. انفجار آخر. أقوى. شظايا النار وصلت شعري، شعرت به يحترق. إيلين صرخت، ثم صمتت. لم تعد قادرة على الكلام.
أصوات تنادي… وجوه مغطاة بالغبار… سلم العمارة مكسور… أنزلوني على فرشة قديمة. علمت بعدها أن البيت المستهدف كان بيت أخي عمر. أخي، زوجته، طفلته، وابنه. كلهم استشهدوا تحت قصف الاحتلال. حتى أخ زوجة أخي وزوجته، الذين لجأوا إلينا، كانوا من الضحايا. وحدها "إيلين" بقيت… بقيت بذاكرتها الصغيرة وصدمتها الكبيرة.
رأينا الجثث، دفناهم في ساحة ملعب القادسية أمام منزلنا. لا إسعاف، لا دفاع مدني. وحده الموت حضر بسرعة. وبعدها بدأت المجاعة… وانتهت ملابسنا تحت الرماد… وصرنا ننام بلا غطاء، نبحث عن الماء كأننا نبحث عن معجزة، نأكل ما لا يُؤكل، ونصمت.
عدنا إلى البيت بعد الهدنة. رممنا الجدران المتهاوية بأيدينا. البيت آيل للسقوط، لكن أين نذهب؟ خيم؟ والدتي كبيرة في السن ولا تتحمل مرارة النزوح. بقينا… في خطر… ولكن على الأرض التي تبقينا على قيد الكرامة.
"إيلين" لم تعد كما كانت. تأخر نطقها. تتبول لا إراديًا. تسألني: "متى أذهب الى الجنة لألعب مع ماما وبابا؟"
ولا أملك جوابًا… سوى أن أحتضنها، كما احتضنتها بجوار الثلاجة، وأتمنى أن يحمينا الله من قادمٍ لا نراه، لكنه أقسى من كل ما مضى.