من نزوح إلى آخر… قصة أم من بيت حانون

28 يونيو 2025

أسيل، هي سيدة من قطاع غزة، ام لطفلين تبلغ من العمر 28 عاماً، في اليوم الأول لحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، ومع دوي أولى الانفجارات، نزحتُ أنا وزوجي وأطفالي من بيت حانون، تلك المدينة الصغيرة الواقعة على حدود الموت. كنا نعلم أن بيت حانون ستكون أول من يُضرب، فهربنا منها نحو جباليا، علّنا نجد الأمان في إحدى مدارس وكالة الغوث هناك.

دخلنا المدرسة، وكان المشهد لا يُحتمل: آلاف من النازحين، لا مكان للجلوس، ولا هواء للتنفس، فقررنا الخروج فورًا. توجهنا إلى الصفطاوي في مدينة غزة، حيث كانت عائلتي قد نزحت هناك، ومكثنا معهم أسبوعين حتى اشتد القصف وأصبحت المدينة تضج بالنازحين والركام.

رغم النزوح القسري للناس إلى الجنوب، رفضنا ذلك أنا وزوجي. أردنا أن نصمد، أن نبقى. فانتقلنا مرة أخرى إلى مدرسة "شادية أبو غزالة" في جباليا، ولم نتحمل البقاء سوى ليلة واحدة؛ الازدحام، دورات المياه المشتركة، انعدام الخصوصية… كان كل شيء يُهين آدميتنا.

اتصلت بنا عمتي، نازحة أخرى في مدرسة "التابعين" في منطقة الصحابة بغزة، وأخبرتنا أن هناك فصلًا فارغًا يمكننا السكن فيه. ذهبنا إليها، ووجدنا بعض الراحة النادرة بين كل هذا الجنون. كنا حوالي 24 شخصًا من عائلتي وعائلة عمي. مكثنا هناك شهرين تقريبًا.

لكن في يناير 2024، قُصفت مئذنة المدرسة، ووصل القصف المدفعي حتى باب الفصل الذي كنا فيه. احترق كيس ملابس من شظية، وخشينا أن نكون الهدف التالي. فهربت مع زوجي وأطفالي الثلاثة (6، 5، وسنتان فقط) إلى منطقة الصناعة وسط مدينة غزة. بعد أسبوع فقط، قُصفت مدرستنا القديمة، ولم يعد لنا أي ملجأ.

تنقلنا مجددًا إلى مدرسة أخرى حيث كانت عائلة زوجي. ولكن المجاعة بدأت، الطعام اختفى، المياه شحّت، والنظافة اختفت. بدأ الخوف الحقيقي على أطفالي. عدنا بعد معاناة إلى مدرسة "التابعين"، ثم إلى بيتنا المدمر في بيت حانون عندما بدا أن الهدوء عاد.

أربعة أشهر من العودة المؤقتة، قبل أن ترتكب قوات الاحتلال مجزرة في مصلى المدرسة التي بقيت فيها عائلتي. في 10 أغسطس 2024، استشهد والدي في القصف. لم أكن معهم. لم أودّعه. لم أحتضن أمي في حزنها. لم أنظر لوالدي النظرة الأخيرة.

بعد الاستشهاد، عادت عائلتي إلى بيت حانون، لكن ما لبثنا جميعًا أن أُجبرنا على النزوح من جديد حين جاء أمر الإخلاء. عدنا إلى جباليا، ولكن حتى هناك لم يكن لنا أمان. اقتُحمت المدرسة، وحلقت فوق رؤوسنا طائرات الكواد كابتر، وأرسل الاحتلال أحد السكان كدرع بشري ليبلغنا بوجوب الإخلاء فورًا.

خرجنا مشيًا على الأقدام إلى حاجز الإدارة المدنية، وهناك فُصل الرجال عن النساء، واعتُقل زوجي مع عشرات غيره. أفرجوا عنه بعد ساعة، ولكن الرعب لم يتركنا.

عدنا إلى مدرسة "التابعين" في 10 نوفمبر 2024. لم نكن نعلم أنها ستكون آخر محطة قبل أن تتغير حياتي إلى الأبد.

في الساعة الواحدة صباحًا من يوم 27 نوفمبر، قصفت المدرسة مجددًا. كنا في الطابق الرابع، فهرعنا إلى الأسفل. لكن القصف أصاب الطابق السفلي مباشرة. وجدت نفسي ملقاة على الأرض خارج المدرسة، وزوجي جريح بجانبي، وأطفالي الثلاثة مصابون.

قالوا لي إن زوجي قد استُشهد. لكني كنت أسمع صوته يستغيث، يصرخ لينقذ أولادنا، ثم اختفى الصوت… وفقدت الوعي.

استيقظت بعدها لأجد قدمي مبتورة من الركبة، رأسي مصاب، جسدي مليء بالشظايا والكسور، وكان ذلك فقط بداية طريق طويل من الألم والجراحة.

دخلت غرفة العمليات في مستشفى المعمداني، واستمرت معاناتي إلى ما بعد العملية، لا أعرف كيف ستبدو حياتي بعد اليوم. كل ما أعلمه أنني فقدت شيئًا من نفسي في كل مرحلة من هذه الرحلة: والدي، قدمي، بيتي، راحتي، وربما… إحساسي بالأمان.